أسباب زيادة الهيموجلوبين بالدم: نظرة طبية شاملة

يُعد الهيموغلوبين (Hemoglobin) أحد البروتينات الحيوية في جسم الإنسان، ويلعب دورًا بالغ الأهمية في نقل الأكسجين من الرئتين إلى باقي أنسجة الجسم، بالإضافة إلى المساهمة في التخلص من ثاني أكسيد الكربون عبر العائد الوريدي إلى الرئتين. يتواجد هذا البروتين داخل كريات الدم الحمراء، ويُعتبر مستواه في الدم مؤشرًا مهمًا على صحة الجهاز الدموي وقدرته على أداء وظائفه الحيوية بكفاءة.

بينما تُعد المستويات المنخفضة من الهيموغلوبين مؤشرًا على حالات مثل فقر الدم، فإن الزيادة في مستوياته قد تكون علامة على اضطرابات صحية تتراوح بين الفسيولوجية البسيطة والمزمنة إلى الأمراض الخطيرة التي قد تهدد الحياة. يُعرف هذا الاضطراب بفرط الهيموغلوبين (Hyperhemoglobinemia)، وتكمن أهمية تناوله في سياق طبي شامل لفهم أسبابه، آثاره، وخيارات التدخل الطبي المناسب.

ما هو المعدل الطبيعي للهيموغلوبين في الدم؟

يتفاوت المستوى الطبيعي للهيموغلوبين بين الأفراد باختلاف العمر والجنس والحالة الصحية العامة. ومع ذلك، فإن المعدلات المرجعية الشائعة هي كما يلي:

عندما يتجاوز مستوى الهيموغلوبين هذه الحدود بشكل ملحوظ، يُصنّف ذلك على أنه فرط هيموغلوبيني، وهو ما يتطلب تدقيقًا طبيًا شاملًا لتحديد السبب الجذري وتقييم الحالة.

الأسباب الفسيولوجية لزيادة الهيموغلوبين

1. العيش في المناطق المرتفعة

الأشخاص الذين يعيشون على ارتفاعات عالية (مثل سكان جبال الأنديز أو الهيمالايا) يكونون أكثر عرضة لارتفاع مستويات الهيموغلوبين. يعود ذلك إلى نقص الأوكسجين في الهواء على هذه الارتفاعات، ما يدفع الجسم لتعويض هذا النقص بزيادة إنتاج كريات الدم الحمراء والهيموغلوبين لزيادة قدرة الدم على حمل الأكسجين.

2. التدخين المزمن

يُعد التدخين من الأسباب الشائعة لارتفاع الهيموغلوبين، إذ يؤدي استنشاق أول أكسيد الكربون الموجود في دخان السجائر إلى تقليل كمية الأكسجين المرتبطة بالهيموغلوبين، ما يحفز الجسم لإنتاج المزيد من الهيموغلوبين لتعويض هذا النقص النسبي في توصيل الأوكسجين.

3. التجفاف (Dehydration)

عند فقدان كمية كبيرة من السوائل، كما في حالات القيء الحاد أو الإسهال أو التعرق المفرط، تقل بلازما الدم دون انخفاض فعلي في عدد كريات الدم الحمراء، ما يؤدي إلى زيادة تركيز الهيموغلوبين بشكل نسبي، وليس فعلي، وهو ما يُعرف بالزيادة الكاذبة للهيموغلوبين.

4. ممارسة التمارين الرياضية المكثفة

الرياضيون الذين يخضعون لبرامج تدريبية مكثفة، وخاصة في الأجواء المرتفعة أو باستخدام تقنيات التدريب المحاكية لنقص الأكسجين (Hypoxic Training)، قد يظهر لديهم ارتفاع في الهيموغلوبين كآلية طبيعية لتعزيز الأداء وتحسين قدرة الدم على نقل الأكسجين.

الأسباب المرضية لزيادة الهيموغلوبين

1. كثرة الحمر الحقيقية (Polycythemia Vera)

كثرة الحمر الحقيقية هي اضطراب نادر في نخاع العظم يؤدي إلى فرط إنتاج كريات الدم الحمراء، ما يتسبب في زيادة تركيز الهيموغلوبين. يُعد هذا المرض من أمراض التكاثر النقوي المزمنة، وقد يترافق مع زيادة عدد الصفائح الدموية والكرات البيضاء كذلك. غالبًا ما يُشخّص المرض من خلال وجود طفرة JAK2 V617F ويُعالج بواسطة فصد الدم (Phlebotomy) والعلاجات المُثبطة لنخاع العظم.

2. أمراض القلب والرئة المزمنة

الحالات المرضية التي تقلل من تشبع الأوكسجين في الدم، مثل الانسداد الرئوي المزمن (COPD)، التليف الرئوي، أو أمراض القلب الخلقية، قد تدفع الجسم إلى إنتاج المزيد من الهيموغلوبين في محاولة لتعويض انخفاض التوصيل الأوكسجيني إلى الأنسجة.

3. الأورام المفرزة للإريثروبويتين (EPO)

بعض الأورام، مثل سرطان الكبد أو الكلى، قد تفرز كميات مفرطة من هرمون الإريثروبويتين الذي يُحفز نخاع العظم لإنتاج كريات الدم الحمراء، ما يؤدي إلى فرط الهيموغلوبين. هذه الحالة تُصنف ضمن “كثرة الحمر الثانوية” الناتجة عن فرط تحفيز النخاع.

4. متلازمة أوسلر-ويبر-راندو (Osler-Weber-Rendu Syndrome)

وهي حالة وراثية نادرة تسبب تشوهات في الأوعية الدموية ونزيفًا متكررًا، ما يؤدي إلى نقص مزمن في الأوكسجين وبالتالي ارتفاع مستويات الإريثروبويتين وزيادة الهيموغلوبين.

عوامل تؤدي إلى ارتفاع الهيموغلوبين عند الأطفال والرضع

الأطفال والرضع قد يظهر لديهم ارتفاع طبيعي مؤقت في مستويات الهيموغلوبين بعد الولادة، ويُعتبر ذلك فسيولوجيًا بسبب الحياة الرحمية ذات البيئة المنخفضة بالأوكسجين. ومع ذلك، فإن استمرار ارتفاع الهيموغلوبين بعد الأسابيع الأولى قد يشير إلى اضطرابات تنفسية أو تشوهات خلقية في القلب.

الآثار الصحية الناتجة عن زيادة الهيموغلوبين

إن ارتفاع الهيموغلوبين لا يُعد دومًا ظاهرة إيجابية، بل قد يرتبط بمجموعة من المضاعفات الصحية تشمل:

• زيادة لزوجة الدم: ارتفاع عدد كريات الدم الحمراء يؤدي إلى زيادة كثافة الدم، ما يبطئ تدفقه ويرفع خطر حدوث الجلطات.

• فرط ضغط الدم الرئوي: نتيجة التأثير على الدورة الدموية في الرئتين.

• الجلطات الوريدية والشريانية: خطر متزايد للإصابة بالسكتات الدماغية أو النوبات القلبية.

• الإجهاد القلبي: حيث يُجبر القلب على بذل جهد أكبر لضخ الدم اللزج عبر الأوعية.

• الدوار، الصداع، ضعف التركيز، واضطرابات بصرية: أعراض شائعة لدى مرضى فرط الهيموغلوبين.

تشخيص زيادة الهيموغلوبين

يعتمد التشخيص الدقيق على مزيج من الفحوص السريرية والتحاليل المخبرية. من أهم هذه الفحوص:

• تعداد الدم الكامل (CBC): لتحديد مستويات الهيموغلوبين، والهيماتوكريت، وكريات الدم.

• قياس تشبع الأوكسجين بالدم: باستخدام مقياس التأكسج أو تحليل غازات الدم الشرياني.

• تحليل الإريثروبويتين: للتمييز بين الحالات الأولية والثانوية لزيادة كريات الدم الحمراء.

• اختبار الطفرات الوراثية (مثل JAK2): لتأكيد أو نفي وجود كثرة الحمر الحقيقية.

• تصوير الصدر والرئتين والقلب: للتحقق من وجود حالات قلبية أو تنفسية مزمنة.

العلاج والتدخلات الطبية

يعتمد علاج ارتفاع الهيموغلوبين على السبب الأساسي. أهم الطرق تشمل:

1. فصد الدم (Phlebotomy)

يُستخدم لتقليل تركيز كريات الدم الحمراء وتخفيف لزوجة الدم، وهو إجراء شائع في حالات كثرة الحمر الحقيقية.

2. علاج الأسباب الثانوية

مثل الإقلاع عن التدخين، علاج أمراض الرئة والقلب، أو استئصال الأورام التي تفرز الإريثروبويتين.

3. العلاج الدوائي

يتضمن أدوية مثل الهيدروكسي يوريا (Hydroxyurea) في حالات كثرة الحمر الحقيقية لتقليل إنتاج كريات الدم.

4. المتابعة الدورية

يشمل ذلك مراقبة دورية لمستوى الهيموغلوبين، والتحقق من تطور الأعراض أو ظهور مضاعفات، خصوصًا في المرضى ذوي الخطورة العالية.

الوقاية والإجراءات التكميلية

• الإكثار من شرب الماء: لتقليل تركيز الهيموغلوبين الناتج عن التجفاف.

• الامتناع عن التدخين: لتقليل التأثيرات السلبية على الأوكسجين والدم.

• مراقبة البيئة المحيطة: خصوصًا عند العيش أو العمل في أماكن مرتفعة.

• التغذية المتوازنة: دون الإفراط في تناول مكملات الحديد أو الفيتامينات دون إشراف طبي.

العلاقة بين زيادة الهيموغلوبين وبعض الأدوية

بعض الأدوية قد تؤدي إلى زيادة الهيموغلوبين كنتيجة غير مباشرة. من بين هذه الأدوية:

• مدرات البول: تؤدي إلى فقدان السوائل وارتفاع تركيز الدم.

• الستيرويدات: قد تُحفّز إنتاج الكريات الحمراء.

• المنشطات الرياضية (EPO): يستخدمها بعض الرياضيين لزيادة الأداء، وتؤدي إلى ارتفاع خطير في الهيموغلوبين.

الخلاصة

زيادة الهيموغلوبين في الدم ليست دومًا دليلاً على صحة جيدة، بل قد تكون علامة على اضطرابات فسيولوجية أو مرضية تتطلب فحصًا طبيًا دقيقًا. تتنوع الأسباب بين الطبيعية، مثل العيش في المرتفعات، والمرضية، كالإصابة بكثرة الحمر الحقيقية أو أمراض القلب والرئة. التعامل السليم مع هذا الاضطراب يتطلب فهماً دقيقاً لأسبابه، ومراقبة مستمرة، وتدخلاً طبيًا عند الحاجة لتفادي المضاعفات المحتملة على الجهاز القلبي والدوراني.

المصادر

• McMullin, M. F. (2019). “Investigation and management of erythrocytosis.” Clinical Medicine, Royal College of Physicians.

• Spivak, J. L. (2021). “Polycythemia vera and other myeloproliferative neoplasms.” The New England Journal of Medicine.